أليك أيتها الجوهرة الغالية
السلام علي روحك الطاهرة ونفسك الزكية ، السلام عليك ورحمة الله وبركاته ،
ماذا عساني أن أكتب إليك أو عنك ، عن عشرة عمر ورفيقة درب ، وأم أولاد ، وزوجة محبة ووفية ، لم أر منها إلا خيرا ، لقد استرجعت عندما رحلت وإن رحيلك لمصيبة عظيمة ، ولكني قلت إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي ، واسترجعت شريطا من الذكريات ، يوم أن أخذتك من بيت أهلك ذلك المساء الجميل يوم الثلاثاء 26/8/1395هـ وقامت عمتك تدعو لك وتقول : “جعلك ما تحادين ” واعترضت على هذا الدعاء وقلت لماذا أتريدينها أن تموت قبلي بل جعلها تحاد علي ومضت الأيام ورزقنا بإيمان تلك الفتاة التي زادت من ارتباطنا ، رحلنا معا صوب أمريكا وعشت غربة اللغة وغربة البعد ، وغربة المكان وغربة الزمان وتحملت غيابي مع ابنتك في دراستي ، ودرست وتعرفت على أسر ونشأت علاقة حميمة مع كثير منهم لأنك من النوع الذي يألف ويؤلف ، لو رأيتهم عندما علموا بالخبر الحزين ، وقد جاؤا زرافات وحدانا وفزعوا إلى فيه بآمالهم إلى الكذب ، رجاء ألا يكون صحيحا ،ورزقنا هناك بأيمن ، وعشت معاناة الحمل والولادة وحيدة إلا من ربك ، لم تضجري، لم تقولي أريد أن تكون الولادة عند أمي قلت ستكون لي كل شئ وسأبقى معك ولك ولهم ، وأنهينا الماجستير وانتقلنا من البلدة التي تعلقت فيها بصاحباتك وعرفت دروبها إلى ولاية أخرى ومدينة جديدة بناسها وأهلها وطرقها ،ولكنك كنت أنت في السراء والضراء ، لم تكن المكافأة كما هي الآن ، لم يكن يصرف للزوجة إلا إذا درست ، وكانت المكافأة تكفي ليس لأنها كافية ولكن لأنك مدبرة اقتصادية من طراز فريد ، على الرغم من أن معك بطاقة ائتمانية ولكن لأنك أمينة لم تكن تستخدميها إلا في الأشياء الضرورية ،لم تكن تهمك المظاهر لا في السكن ولا في المركب ولا في الأثاث، ولا في المقتنيات ، وقفت معي في دراستي سهلت أموري جعلت الحياة سهلة بالنسبة لي وإن كانت صعبة بالنسبة لك ، أنهيت مرحلة مواد الدكتوراه وبدأت أستعد للاختبار الشامل وكنت أخرج قبل الثامنة صباحا وأعود بعد الخامسة وأكل ما أعددته وأجلس معكم قليلا ثم أعود إلى المكتبة حتى الحادية عشرة ، وذلك كل يوم لم تتضايقي لم يبدر منك إلا المساندة والدعاء والاطمئنان تقولين نحن بخير ، لا ينقصنا شئ فقط اهتم بنفسك ودراستك ،أهل المسجد يعرفون حرصك وجهودك وكرمك وما تعملينه من أجل إكرامهم بما لذ وطاب بين الفينة والأخرى ، وزوار البلدة يتذكرون إلى الآن أنك لم تتأففي يوما من ضيافتهم مهما كانت الضيافة مفاجأة بالنسبة لك ، وتحدد موعد الاختبار ولم وأخبر أحدا حتى أنت حتى لا تزداد علي الضغوط وكان الاختبار محددا لمسيرتي إما النجاح والبدء في الرسالة أو عدمه والبحث عن جامعة أخري والدارسة من جديد ،وكان الاختبار من الاثنين إلى الجمعة وبدأت وأنهيت أربعة أيام وفي مساء الخميس طرحت على سؤال المشفقة بحنان ورفق،( أما تحدد موعد الاختبار لقد هلكت وأنت تستعد له) ، قلت ما أطيبك وأنبلك لم يبق إلا غدا وأنتهي من الاختبار ، فبكت فرحا وقالت لماذا لم تخبرني فقلت لم أرد أن أقلقك ولا أن أزيد على ضغوطا ثم أردت لو لم أجتز الاختبار لوجدت مخرجا لي في إعادته من دون أن يعلم أحد ولكني أخبرك الآن لأن الدلائل ولله الحمد تشير إلى نتائج رائعة ، فقالت أقسم عليك أن تخبرني بموعد مناقشة الرسالة فقلت أما هذه فستحضرينها بإذن الله ، وهكذا كان حضرت المناقشة وحفل التخرج ولله الحمد والمنة ،
عدنا وسكنا في بيت بالإيجار ، وأثثتاه أثاثا بسيطا وكنت عونا لي في ذلك لم تشترطي أي نوع أو أي ماركة بل أتذكرين يوم عرضت عليك أن أهديك عقدا من الماس كان أحد الزملاء قد أحضر مجموعة منها لبيعها ، فأخذت منه أحدها وعرضتها عليك ولكنك رفضت وقلت لا يمكن أن ألبس هذا ونحن في إيجار ، بينا بيتنا طوبة طوبة بالود والرحمة وتحققت لنا فيه السكينة وتذكرنا فيه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم “أربع من السعادة الزوجة الصالحة والجار الصالح والمنزل الواسع والمركب الهنئ وأربع من الشقاء : الزوجة السؤ والجار السؤ والمنزل الضيق والمركب السؤ ” وكنت الزوجة الصالحة ولنا جيران صالحين ومنزل واسع على قدرنا ،ومركب ( سيارة مريحة)هنئ والحمد لله رب العالمين ولا نقول إلا كفانا الله الشر وأعين الحسود ولا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فعلى الرغم من أن الناس في نعمة إلا إن قلة الإيمان وضعف النفوس وقلة اليقين زادت من نسبة الحسد والتوتر بين الناس وضاقت الأنفس وكانوا يظنون أن المساكن قد ضاقت وما علموا أن الكرم والسعة في النفس وليست في اليد والمكان ومع هذا أقول لك ذلك وأكتب إليك وأحاور معك تحدثا بنعمة الله رغم معاناتنا من الناس والله خير حافظ وهو أرحم الراحمين وقد يظن بعض الناس أن حياتنا كانت خلو من الكدر وأحي أن أقول لهم لا بل مرت علينا الفصول الأربعة أحيانا شتاء قارص وأحيانا صيف حار ,أحيان ربيع وأحيانا خريف ، نختلف ونتفق نرضى ونزعل ولكنك لم تتركي الزعل ليأخذ وقتا كنت تبادرين للود وأبادر بالخجل من المبادرة أو العكس كنت وأنا نؤمن أن الحياة هي حياتنا بكل ألونها وأطيافها ، بكل آمالها وآلامها بكل ابتسامتها وآهاتها وتسير بجناحي المودة والرحمة )وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)
كان هذا هو الشعار الذي وضعتيه أمامنا في مكان بارز، ووضعته شعارا بارزا في أكثر من كتاب ومقالة .
وعندما أكتب إليك فإنما أتذكر قول القائل :
وهون ما ألقى من الوجد أنني * * أحاورها في قبرها اليوم أو غدا
ودعيني أستعرض معك مرضك الذي ألم بك ،: بعد حفلة كنت فيها النجمة شعرت ببعض الألم وظننتيه ألما طارئ وكعادتك في التجلد والصبر هونت من أمره ، ولكن تم الفحص ولم يتبين أمر ذا بال وسافرنا إلى ماليزيا وعدنا في أول يوم من رمضان المبارك وصمت رمضان وكنت كعادتك كريمة معنا ومع غيرنا في هذا الشهر الكريم من خلال ما تعملين وتقدمين ومن خلال حرصك على التراويح في مسجد معين ، ولكن ألمك لم يتح لنا أن نذهب كما كنت دائما تشجعيننا وتدفعيننا إلى مكة المكرمة ، وظلت تلك الآلام تعاودك ولكنها لم تمنعك من الذهاب إلى حيث تجدين راحتك مع كتاب ربك دار مريم بنت عمران لتحفيظ القرآن الدار الذي ظللت مرتبطة بها لسنوات وكنت في كل فصل تأتين إلى بالنتيجة فرحة كطفلة تفرح بتفوقها وتقولين هذا نتيجة تشجيعك وصبرك وهديتي منك استمرار تشجيعك ، ومع بداية ذي الحجة اشتدت عليك الآلام ولم تستطيعي الذهاب إلى الدار ومما يؤلمني أن هذا الانقطاع كان الانقطاع الأخير ، ولكنه لن يكون انقطاعك عن حبل الله المتين كتابة العزيز بإذن الله لأنك موصولة بهذا الكتاب وتعلقك به ونسأل الله أن يقودك إلى رضوان الله وجنته، واشتد الألم وأخذنا نبحث عن أسباب الشفاء هنا وهناك وفي الأخير ذهبنا إلى المستشفى لأخذ أشعة مقطعية ، وبعد يومين استدعانا المستشفى وبعد فحص وأشعة أدخلت للمستشفى وبعد يوم أدخلت للعناية المركزة وبعد يوم عملت لها العملية وبعد يومين تنبهت وتبسمت وسعدنا بتلك الابتسامة ، ولم تكن تراودنا أنك قد تفقدين تلك الابتسامة بعد يومين ،و حصلت انتكاسة صحية واستمرت هذه الانتكاسة تزداد سؤ يوما بعد يوم وأعدتنا هذه التجربة المريرة بتفاعلاتها لذلك اليوم المؤلم ، كنت أحضر جلسات المجلس بجسمي وأحاول أن أركز بعض التركيز ولكن قلبي وعقلي ومشاعري هناك في المستشفى ، وقد عمل أعضاء الهيئة الطبية جهدهم وبذلوا ما يستطيعون بأريحية وتفاعل ووضوح وصراحة كنت أقول لهم لا تخفوا شيئا ، فكانوا نعم الأطباء ونعم التعاون ، ونعم العطاء فلهم شكرنا وتقديرنا واعترافنا بالجميل ولا راد لقضاء الله ، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ، لكل أجل كتاب ، في ذلك اليوم كلمت الطبيب وقال إن الأمر بيد الله ولكن الدلائل تشير إلى أن الأمر سيقضى خلال ساعات ، هاتفت مبارك في أمريكا وقلت له أن يستعد لأمر الله وحضرنا أيمن وأسماء وقرأنا وقبلنا وعيوننا دامعة ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وفي حوالي الثانية عشرة طلب منا الطبيب أن نغادر وبعد ثلاث ساعات أو أقل هاتفني ليبلغني بأن أمر الله قد تم وأن قضاءه وجب ومع هذه التهيئة النفسية لنا طيلة أكثر من شهر إلا إننا كنا نتعلق بأهداب رجاء وأمل ولكن الخبر وقع علينا كالصاعقة فزعنا إلى الله واسترجعنا “)الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:156)
وأخذنا نعزي بعضنا بعضا ويقوي بعضنا بعضا كنت أظنني أنا الذي سأشد من عضدهم وأقويهم و لكني وجدتني أحوجهم لمن يسندني ويشد من أزري ، هاتفت مبارك وقال إنه في المطار ، وفي الصباح ذهبنا إلى المستشفى حيث أكملنا الأوراق المطلوبة وطلبنا أن نأخذها للتغسيل والدفن صباح اليوم التالي وانتشر الخبر فلما عدنا إلى البيت إذا هو مزدحم بين مصدق وبين من فزع لتكذيب الخبر ، وفي اليوم التالي تم تغسيلها كأحسن ما يكون وكانت على أحسن حال مما أدخل الطمئنية علينا جميعا وصلي عليها خلق كثير وحملت على الأكتاف إلى المقبرة واشترك في الدفن خلق كثير ولم أستطع أن أنزل في القبر وكانوا يقولون أحثوا عليها التراب فلم استطع فقام أحدهم وأخذ حثوة من تراب ووضعها في يدي وحثوتها ولم يكن الأمر هينا ولكنه أمر الله ، لقد كانت مشاعر الأحبة في المسجد والمقبرة تخفف وقع المصيبة ،ولما عدنا إلى البيت وجدنا الأحبة هناك حيث جاؤا زرافات ووحدانا يحدوهم طلب الأجر من الكريم المنان ، ثم المشاركة في العزاء وكانوا من هذا المجتمع الذي يثبت أنه لحمة واحدة ونسيج واحد الأمراء والوزراء والكبار والصغار الذكور والإناث جاؤا وفي زحمة الرياض وحفريات الحي وغبار الأيام ومع هذا تحملوا كل شئ أسأل الله ألا يحرمهم الأجر وألا يريهم مكروها ، ولهم شكرنا وتقديرنا واعترافنا بالجميل، أما أنت أيتها الحبية يا رفيقة العمر والدرب فثقي أن الناس شهود الله في خلقه وكل هؤلاء أثنوا عليك خيرا ونقول إن شاء الله وجبت وأنا أشهد أنك كنت صوامة قوامة، عفيفة ومت شريفة همك ترضي ربك .. ومن ثم .. خدمة بيتك وتربيت أبناءك وبناتك
حافظت على عرضك .. وشاركت ببناء أمتك بتربية أبنائك وبناتك على ما يرضي ربك، صنت نفسك عن كُل ما يدنس سمعتك إذا خرجت محتشمة .. وإذا تكلمت ذاكرة ولربك شاكرة لزوجك خدوم ولبيتك ورحمك رحوم ولجيرانك أبداً لا تتأخر وتروم
إذا نظر إليها زوجها سرته .. وإذا أمرها أطاعته .. وإذا غاب عنها حفظته
في البرد دفئ لبيتها وبنيها .. وفي الصيف برد لمحبيها تحفظ سر زوجها .. كما تحفظ سر أهل زوجها تشكر شريك حياتها .. ولا تكفر عشيرها
ليلها تجدها ساجدة وشاكرة ولربها عابده زاهدة ونهارها في خدمة زوجها وترتيب بيتها متمسكة بقوله تعالى) يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ )(الأحزاب: من الآية59)
وتطمح أن تكون مما قال عليه الصلاة والسلام فيها
( أيما امرأة ماتت و زوجها عنها راض دخلت الجنة ) رواه الترمذي
اللهم إني أشهدك وأشهد خلقك أنني عنها راض فارضي عنها بفضلك ومنك يا أرحم الراحمين ، اللهم إنها في ضيافتك وأنت أكرم الأكرمين فأكرم وفادتها عليك وآنس وحشتها و,امن روعتها واجعل قبرها روضة من رياض الجنة وجعلها قد سبقتنا بفضلك وجودك إلى رضوانك والجنة ، فقد روى النسائي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أحد أصحابه فسأل عنه فقالوا : يارسول الله أحد بنيه هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك فعزاه عليه ثم قال:” يافلان أيما كان أحب إليك : أن تمتًع به عمرك، أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ، قال يانبي الله بل يسبقني إلى الجنة فيفتحها لي لهو أحب إلي قال : فذلك لك “