طبت حياً وميتاً ياأبي

بعد أن هدأت الأنفاس نوعاً ما ، أكتب إليك ياأبي وأنت في مرقدك الذي أدعو الله أن يكون روضة من رياض الجنة ، لقد ودعتنا ليلة الخميس 11/2/1425هـ بابتسامتك
 الوضاءة التي عرفت بها ، ودعتنا بلسان رطب من ذكر الله تعالى وقد رفعت السبابة اليمنى موحدة لله جل وعز وهي اليد التي صعب عليك تحريكها منذ سنوات ، ودعتنا وبعض الحضور من أهلك وأولادك وأحفادك لم يشعروا أو لم يعرفوا أنك تودعهم فعلاً، لقد عشنا معك تلك الليلة المشهودة في حياتنا ، وأنت تعاني النزع وقد اشتدت عليك الحمى وارتفعت درجة حرارتك ( 39.2 ) وجسمك بارد والعرق يتصبب من جسدك الطاهر وقرأنا عليك سورة يسن والدخان والواقعة والبقرة ، وكانت نعمة من نعم الله علينا أن نكون جميعاً حولك أحدهم يضع يسراه تحت رأسك ويمناه تذكرك بالشهادة التي ترددها دائماً في صحتك ومرضك والآخر ممسك بيسراك يتحسس نبضك والأخرى عند قدميك .                                                                                                                                                                                            و رفعت سبابتك اليمنى وسلمت علينا واستلم الروح بارؤها والكل يتطلع إليك ويقول اعملوا شيئا أحضروا الطبيب، وبودهم لويفدونك بأرواحهم.

 ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ، وأنتم حينئذ تنظرون ، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ، فلولا إن كنتم غير مدينين ، ترجعونها إن كنتم صادقين )  الواقعة83-78.

ولقد أكرمنا الله يا أبي بنعمة أخرى .. وهي تغسيلك .. وقد كانت تجربة مثيرة بالنسبة لنا لقد كنا نغسلك وكأنك حي بابتسامتك ووضاءتك ونورك المشع… 
لم نتخيل أننا نغسلك ميتاً .. وهي التجربة الأولى بالنسبة لي ولكني أحمد الله تعالى أن أكرمني بها ومعك .. وهي تجربة أرجو ألا يحرم المرء نفسه منها مع والديه وأحبابه فشعور الرضا والسعادة الذي يجدها المرء عندما يحظى بهذا الشرف والتكريم 
شعور عظيم.

وأكرمنا الله يا أبي بحملك والصلاة عليك في المسجد .. وكم نحن مدينون لأولئك الأفاضل الذين ندعو الله ألا يحرمهم من أجر القيراطات التي ينعم الله بها على من يتقبل الله منه فقد جاءوا زرافات ووحدانا من أماكن متفرقة .. جاء الأمير والعالم والوزير والمدير والطالب والموظف والقريب والبعيد جاءوا إلى المسجد وصلوا عليك ثم شيعوك إلى المقبرة رغبة في الأجر ومشاركة في العزاء ..

حاولوا منعي من النزول معك في قبرك شفقة عليَّ وعندما كنت أغسلك كان أمراً مشجعاً أما وقد رأيتك توضع في قبرك ويحثى عليك التراب كان شعوراً مختلفاً .. تذكرت قول سيدة نساء العالمين السيدة الطاهرة فاطمة بنت الحبيب المصطفى عليهم الصلاة والسلام عندما قالت” هل هان عليكم رسول الله فتحثوا عليه التراب ” .. وتذكرت قول الأمير الشاعر خالد الفيصل في أبيه الملك الصالح فيصل عندما قال :

والله ما حطك بالقبر لكن آمنت    بالذي جعل دفن المسلمين مسنون                الحمد لله الذي جعلنا مسلمين والحمد لله لقد رضينا بما كتب الله ولانقول إلا ما يرضي ربنا على الرغم من أننا على فراقك يا أبي لمحزونون لا نقول إلا ” إنا لله وإنا إليه راجعون ” كانت مشاعر حزن ومشاركة في المسجد والمقبرة .. اختلطت فيها الدموع بالدعاء والصبر بالتصبر والتبصر كانت هناك أيد حانية تمسح الدمع وتضفي من مشاعر الأبوة والأخوة ما يعجز المرء عن وصفه ولا شكره .. عدنا إلى البيت الذي تسكنه أيها الغالي دائماً .. وكانت هناك أمنا .. زوجتك وصاحبتك عبر الزمن تلك التي عاشت معك الحلوة والمرة .. التي أوصيتنا كثيراً بها  واهتمت بك وسهرت معك في كل الأيام وعليك في آخر سنواتك .. فوجدناها نعم الصابرة الراضية المؤمنة .. واستنا في مصابنا وكنا نظن أننا سنواسيها فإذا هي أجلد أو هكذا تظهر .. أو هكذا أرادت أن تكون كما هي دائماً الصابرة المحتسبة التي علمتنا كما علمتنا حقيقة الرضا والصبر.. حقيقة التسامح والابتسامة حتى مع وخز الألم .. حقيقة الترفع عن الصغائر وتجاوز المحن .. وتحويلها إلى منح .. حقيقة حب الناس والوفاء معهم حتى وإن بدر منهم غير ذلك ، عدنا فوجدنا الأخوات والقريبات أحفادك وحفيداتك كلهن بعيون دامعة وقلوب مكلومة ولكن بيقين ثابت وصبر عميق .. ودعاء صادق وتفويض كامل فالحمد لله على نعمائه .. لقد ربيتنا وإياهم على ذلك وها أنت تحصد ما زرعت أيها الكريم ..

عدنا فوجدنا الأخيار وقد سبقونا بكرمهم وخيرهم وجاء آخرون لم يتمكنوا من الصلاة عليك أو تشيعك إلى المقبرة ولا أقول إلى مثواك الأخير لأن مثواك الأخير الجنة برحمة الله وفضله وكرمه أما هذا المقر فنرجو أن يكون لك روضة من رياض الجنة وهو مرحلة من مراحل عدة مرحلة الحياة الدنيا ومرحلة القبر ثم المرحلة الأخيرة وهي ما بعد القيامة نسأل الله أن يجمعنا بك في مستقر رحمته . لم تكن صاحب جاه ولا منصب ولم يكن أحد من أولادك كذلك فلماذا هذا الحب وتلك المشاعر ؟! لقد جاء إلى البيت الذي تعرفه في حي بدر جنوب الشفاء رغم بعده عن كثير من الناس .. على الرغم من أن بعضهم يأتي إلى الحي لأول مرة .. ولكنهم جاؤوا .. وهاتفوا وأرسلوا وأوصوا .. الأمراء الكرام والعلماء الأجلاء .. الوزراء المبجلون.. أعضاء هيئة التدريس في الجامعات ولا أقول الجامعة .. مدراء الجامعات ، وكلاء .. ومدراء موظفون وطلاب .. أقرباء وأصدقاء .. إخوة وأخوات صغار وكبار .. يعزون .. يدعون يشدون من الأزر يقفون مع الجميع في مصابهم ،كل بعرض فضله وكرمه وخدماته هكذا هو مجتمعنا يا أبي الذي عرفته منذ أن ولدت رحمك الله في الحوطة ثم انتقلت إلى الخرج صغيراً يافعاً وعملت في مزارع متعددة ثم استقر بك المقام في رياض العز وفي جامعة الملك سعود التي عملت فيها حتى تقاعدت عن العمل معززاً مكرماً محبوباً كريماً .. لم تذكر لك عداوة مع أحد أو  خصام 
مع أحد .. لقد مت وذمتك سليمة .. وقلبك أصفى من الصفاء ذاته أحببت الجميع فأحبك الجميع حتى الصغار بكوا عليك لأنك لم تضق بهم أبداً كنت حانياً على الجميع ومع الجميع ..

نم يا أبي مطمئناً في قبرك .. فنحن ندعو لك دائماً .. ونحاول جاهدين الوفاء بما علمتنا إياه وما أوصيتنا عليه .. نهتم بأمنا و نعنى بأخواتنا ونتكافل ونتعاون فيما بيننا .. وقد أخرجنا وصيتك لتحفيظ القرآن الكريم كما أمرت … أن تعليم القرآن من أهم ما يوصى به لأن أجره مستمر ومضاعف لا حرمك الله أجر ما أوصيت به .. سنحاول أن نكون أوفياء مع المبادئ التي علمتنا إياها رحمك الله وأسكنك فسيح جناته ، لقد أكرمنا الله بك وعشنا معك سعادة رغم قلة ذات يديك في أيام كثيرة  .. ولكنك لم تشعرنا بأي تقصير .. تحملت على نفسك وبذلت من صحتك ووقتك حتى لا نشعر أنه ينقصنا شيء فعشنا بفضل الله ثم معك بعزة واحترام فلله الحمد والمنة ثم لك الدعاء بالمغفرة والرضوان وسلام الله عليك وطبت حياً وميتاً .

والله المستعان.

              ابنك المخلص

إبراهيم بن مبارك الجوير

21/2/1425 

ص ب 45592 الرياض 11522

هذه رسالة إلى أبي يمكن أن نطلق عليها مشاعر أبن ، ننشرها مع مشاعر أب لأنها كتبت في الفترة نفسها وتحكي مشاعر لشخص محب لأبيه وبنيه وقد يجد فيها القارئ بعض ما يبحث عنه دعواتكم بالرحمة والمغفرة للجميع

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.